فصل: فيه مسائل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية108‏]‏‏.‏

هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون؛ ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله؛ فنفس الفعل لغير الله‏.‏

وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام؛ فلا يجوز أن تذبح فيه؛ لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة؛ فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر‏.‏

* * *

قوله‏:‏ ‏(‏لا تقم فيه‏)‏، ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًَا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية107‏]‏، والمتخذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك‏:‏

1ـ مضارة مسجد قباء‏:‏ ولهذا يسمى مسجد الضرار‏.‏

2ـ الكفر بالله‏:‏ لأنه يقرر فيه الكفر ـ والعياذ بالله ـ لأن الذين اتخذوه هم المنافقون‏.‏

3ـ التفريق بين المؤمنين‏:‏ فبدلًا من أن يصلي في مسجد قباء صف أو صفان يصلي فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في اجتماع المؤمنين‏.‏

4ـ الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال‏:‏ إن رجلًا ذهب إلى الشام، وهوأبوعامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية107‏]‏؛ فهذه سنة المنافقين‏:‏ الأيمان الكاذبة‏.‏

‏(‏إن‏)‏‏:‏ نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي‏:‏ ما أردنا إلا الحسنى، والجواب عن هذا اليمين الكاذب‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية10‏]‏‏.‏

فشهد الله تعالى على كذبهم؛ لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب؛ فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين؛ كما قال الله تعالى في سورة المنافقين‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ من الآية1‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه‏}‏، لا‏:‏ ناهية، وتقم‏:‏ مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمة السكون، وحذفت الواو؛ لانه سكن آخره، والواوساكنة؛ فحذفت تخلصًا من التقاء الساكنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبدًا‏)‏ إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، اللام‏:‏ للابتداء، ومسجد‏:‏ مبتدأ وخبره‏:‏ ‏(‏أحق أن تقوم فيه‏)‏، وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏أسس على التقوى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏108‏]‏؛ أى جعلت التقوى أساسًا له، فقام عليه‏.‏

وهذه الأحقية ليست على بابها، وهوأن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتراكًا في أصل الوصف؛ لأنه لا حق لمسجد الضرار أن يقام فيه، وهذا ‏(‏أعني‏:‏ كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل‏)‏ موجود في القرآن كثيراَ؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏24‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيه‏)‏، أي‏:‏ في هذا المسجد المؤسس على التقوى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، بخلاف من كان في مسجد الضرار؛ فإنهم رجس؛ كما قال الله تعالى في المنافقين ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية 95‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يتطهروا‏}‏، يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، هذه محبة حقيقية ثابتة لله ـ عز وجل ـ تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون‏:‏ المراد بالمحبة‏:‏ الثواب أو إرادته؛ فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏المطهرين‏}‏ أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة‏.‏

وجه المناسبة من الآية

أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين؛ نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله؛ فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية؛ فلا تقام فيه الصلاة‏.‏

وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حرامًا؛ لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار‏.‏

وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه؛ قال‏:‏ نذر رجل أن ينحر إبلًا ببوانة، فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد‏؟‏‏.‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فهل كان فيها عيد من أعيادهم‏؟‏‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم‏)‏‏.‏ رواه أبوداود، وإسناده على شرطهما ‏[‏مسند الإمام أحمد ‏(‏3/419‏)‏، وسنن أبي داود‏:‏ كتاب الأيمان والنذور/باب ما يؤمن به من الوفاء بالنذر‏.‏‏]‏‏.‏

وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس؛ فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان‏.‏

* * *

قوله‏:‏ ‏(‏نذر‏)‏، النذر في اللغة‏:‏ الإلزام والعهد‏.‏

واصطلاحًا‏:‏ إلزام المكلف نفسه لله شيئًا غير واجب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر والواجب صح النذر وصار المنذور واجبًا من وجهين‏:‏ من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء‏.‏

والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه؛ بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عنه، وقال‏:‏ ‏(‏لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب القدر/ باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم‏:‏ كتاب النذر/ باب النهي عن النذر‏.‏‏]‏، ولأنه إلزام

لنفس الإنسان بما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه‏.‏

ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يمينًا وشمالًا يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها؛ تجده ينذر كأنه يقول‏:‏ إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أودفع الضرر إلا بهذا النذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إبلًا‏)‏، اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ببوانه‏)‏، الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى‏:‏ بمكان يسمى بوانة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هل كان فيها وثن‏)‏، الوثن‏:‏ كل ما عبد من دون الله؛ من شجر، أوحجر، سواء نحت أولم ينحت‏.‏

والصنم يختص بما صنعه الآدمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعبد‏)‏، صفة لقوله‏:‏ ‏(‏وثن‏)‏، وهوبيان للواقع؛ لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالوا‏:‏ لا‏)‏، السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عيد‏)‏، العيد‏:‏ اسم لما يعود أويتكرر، والعود بمعنى الرجوع؛ أي‏:‏ هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيدًا وإن لم يكن فيه وثن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمرين‏:‏ عن الشرك، ووسائله‏.‏

فالشرك‏:‏ هل كان فيها وثن‏؟‏ ووسائله‏:‏ هل كان فيها عيد من أعيادهم‏؟‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏، فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكسرة دليل عليها‏.‏

وهل المراد به المعنى الحقيقي أوالمراد به الإباحة‏؟‏

الجواب‏:‏ يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي؛ فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي‏.‏

وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة؛ لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان؛ إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة؛ فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هونحر اجب‏.‏

وبالنسبة للمكان؛ فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم؛ لقال‏:‏ لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص؛ فالأمر للإباحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏ علل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بانتفاء المانع؛ فقال‏:‏ ‏(‏فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا وفاء‏)‏، لا‏:‏ نافية للجنس، وفاء‏:‏ اسمها، لنذر‏:‏ خبرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في معصية الله‏)‏، صفة لنذر؛ أي‏:‏ لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله؛ لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها‏.‏

* أقسام النذر‏:‏

الأول‏:‏ ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطع الله؛ فليطعه‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة‏.‏‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه‏)‏ ‏[‏البخاري‏:‏ كتاب الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة‏.‏‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏ ‏[‏مسلم‏:‏ كتاب النذر/ باب لا وفاء لنذر في معصية الله‏.‏‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏ ما يجري مجرى اليمين، وهونذر المباح؛ فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لونذر أن يلبس هذا الثوب؛ فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين‏.‏

الرابع‏:‏ نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم؛ لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالبًا، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهوالذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أوالمنع، أو التصديق، أو التكذيب‏.‏

مثل لو قال‏:‏ حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر‏:‏ لم يحصل، فقال‏:‏ إن كان حاصلًا؛ فعلي لله نذر أن أصوم سنة؛ فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل؛ فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لأنه إن صام فقد وفى بنذره، وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين‏.‏

الخامس‏:‏ نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين‏.‏

السادس‏:‏ النذر المطلق، وهوالذي ذكر فيه صيغة النذر؛ مثل أن يقول‏:‏ لله علي نذر فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين‏)‏ ‏[‏رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وأصله في مسلم‏.‏‏]‏‏.‏

* مسألـة هل ينعقد نذر المعصيـة‏؟‏

الجواب‏:‏ نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص 232‏)‏‏.‏

‏]‏ ، ولو قال‏:‏ من نذر أن يعصي الله فلا نذر له؛ لكان لا ينعقد؛ ففي قوله‏:‏ ‏(‏فلا يعصه‏)‏ دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ‏.‏

وإذا انعقد هل تلزمه كفارة أولا‏؟‏

اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد‏:‏

فقال بعض العلماء‏:‏ إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏ ‏[‏تقدم‏(‏ص 232‏)‏‏.‏‏]‏‏.‏

وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه‏)‏، ولم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفارة، ولوكانت واجبة؛ لذكرها‏.‏

القول الثاني‏:‏ تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين ‏[‏تقدم ‏(‏ص 232‏)‏‏.‏‏]‏ وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه؛ فعدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، نعم، لوقال الرسول‏:‏ لا كفارة؛ صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت والسكوت لا ينافي المنطوق؛ فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتمادًا على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهى هذا الرجل؛ فاعتمادًا عليه لم يقله؛ لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أوتخصيص يذكرها الرسول عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا؛ لكانت تطول السنة، لكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا ذكر حديثًا عامًا وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه وإن لم يذكره حين تكلم بالعموم‏.‏

وأيضًا من حيث القياس لوان الإنسان أقسم ليفعلن محرمًا، وقال‏:‏ والله؛ لأفعلن هذا الشيء وهومحرم؛ فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم، وعلى هذا؛ فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا فيما لا يملك ابن آدم‏)‏ الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين‏:‏

الأول‏:‏ مالا يملك فعله شرعا؛ كما لوقال‏:‏ لله على أن أعتق عبد فلان؛ فلا يصح لأنه لا يملك اعتاقه‏.‏

الثاني‏:‏ ما لا يملك فعله قدرا، كما لوقال‏:‏ لله على نذر أن أطير بيدي؛ فهذا لا يصح لأنه لا يملكه‏.‏

والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل‏.‏

* ويستفاد من الحديث‏:‏

أنه لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، وهوما ساقه المؤلف من أجله، والحكمة من ذلك ما يلي‏:‏

الأول‏:‏ أنه يؤدي إلى التشبيه بالكفار

الثاني‏:‏ أنه يؤدي إلى الاعتزاز بهذا الفعل؛ لأن من رأك تذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز‏.‏

الثالث‏:‏ أن هؤلاء المشركين سوف يقوون على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم، ولاشك أن تقوية المشركين من الأمور المحظورة، وإغاظتهم من الأعمال الصالحة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُونَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ من الآية120‏]‏‏.‏

*فيه مسائل

الأولي‏:‏ تفسير قوله‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏‏.‏ الثانية‏:‏ أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة‏.‏ الثالثة‏:‏ رد المسألة المشكلة إلى المسألة

البينة؛ ليزول الإشكال‏.‏

فيه مسائل

* ·الأولي‏:‏ تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه أبدا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، وقد سبق ذلك في أول الباب‏.‏

* ·الثانية‏:‏ أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة، أي‏:‏ لما كانت هذه الأرض مكان شرك؛ حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين‏.‏

أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة؛ فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة؛ لا يكون الإنسان متشبها بهذا العمل، بخلاف الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلي في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك؛ لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان‏.‏

وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، ولهذا؛ فإن المساجد أفضل من الأسواق، والقديم منها أفضل من الجديد‏.‏

* الثالثة‏:‏ رد المسألة المشكلة إلى البينة ليزول الإشكال، فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل، لكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين ذلك بالاستفصال‏.‏

الرابعة‏:‏ استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك‏.‏ الخامسة‏:‏ أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع‏.‏ السادسة‏:‏ المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولوبعد زواله‏.‏

* الرابعة‏:‏ استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استفصل، لكن هل يجب الاستفصال على كل حال، أوإذا وجد الاحتمال‏؟‏

الجواب‏:‏ لا يجب إذا وجد الاحتمال؛ لأننا لو استفصلنا في كل مسألة؛ لطال الأمر‏.‏

مثلا‏:‏ لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن‏:‏ هل هو معلوم‏؟‏ وعن المثمن‏:‏ هل هو معلوم‏؟‏ وهل وقع البيع أو معلقا أوغير معلق‏؟‏ وهل كان ملكا للبائع‏؟‏ وكيف ملكه‏؟‏ وهل انتفت موانعه أولا‏؟‏

أما إذا وجد الاحتمال؛ فيجب الاستفصال، مثل‏:‏ أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق؛ فيجب الاستفصال عن الأخ‏:‏ هل هو شقيق أولأم‏؟‏ فإن كان لأم؛ سقط، وأخذ الباقي العم، وإلا؛ سقط العم، وأخذ الباقي الأخ‏.‏

* · الخامسة‏:‏ أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع لقوله‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة

فالواقعة‏:‏ أن يكون فيها وثن أوعيد من الجاهلية‏.‏

والمتوقعة‏:‏ أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي؛ كان ممنوعا، مثل‏:‏ لو أراد أن يذبح عند جبل؛ فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية؛ كان ممنوعا‏.‏

* · السادسة‏:‏ المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله،

السابعة‏:‏ المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله‏.‏

الثامنة‏:‏ أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية‏.‏

التاسعة‏:‏ الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده‏.‏

العاشرة‏:‏ لا نذر في معصية‏.‏

لقوله‏:‏ ‏(‏هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية‏؟‏‏)‏؛ لأن ‏(‏كان‏)‏ فعل ماض، والمحظور بعد زوال الوثن باق؛ لأنه ربما يعاد‏.‏

*السابعة‏:‏ المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله، لقوله‏:‏ ‏(‏فهل كان فيها عيد من أعيادهم‏؟‏‏)‏

*الثامنة‏:‏ أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية، لقوله‏:‏ ‏(‏فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله‏)‏‏.‏

*التاسعة‏:‏ الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد؛ فإنه يمنع منه ولو لم يقصده، لكن مع القصد يكون أشد إثما، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب‏:‏ ولو لم يقصده‏.‏

*العاشرة‏:‏ لا نذر في معصية الله، هكذا قال المؤلف، ولفظ الحديث المذكور‏:‏ ‏(‏لا وفاء لنذر‏)‏، وبينها فرق‏.‏

فإذا قيل‏:‏ لا نذر في معصية؛ فالمعنى أن النذر لا ينعقد، وإذا قيل‏:‏ لا وفاء؛ فالمعنى أن النذر ينعقد، لكن لا يوفى، وقد وردت السنة بهذا وبهذا‏.‏

لكن‏:‏ ‏(‏لا نذر‏)‏ يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث

الحادية عشرة‏:‏ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ‏.‏

الصحيح‏:‏ ‏(‏ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه‏)‏ ‏[‏تقدم ‏(‏ص232‏)‏‏.‏

‏]‏‏.‏

الحادية عشرة‏:‏ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، يقال فيه ما قيل في‏:‏ لا نذر في معصية‏.‏

والمعنى‏:‏ لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم، ويشتمل ما لا يملكه شرعا، وما لا يملكه يقدرا

* * *